فصل: فَصْلٌ: بَيَانُ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَنُ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: بَيَانُ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَنُ:

وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَنُ فَنَقُولُ: كَفَنُ الْمَيِّتِ فِي مَالِهِ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَيُكَفَّنُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ قَبْلَ الدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِ الْمَيِّتِ فَصَارَ كَنَفَقَتِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَكَفَنُهُ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ، كَمَا تَلْزَمُهُ كِسْوَتُهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ إلَّا الْمَرْأَةَ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ كَفَنُهَا عَلَى زَوْجِهَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ انْقَطَعَتْ بِالْمَوْتِ فَصَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يَجِبُ عَلَيْهِ كَفَنُهَا، كَمَا تَجِبُ عَلَيْهِ كِسْوَتُهَا فِي حَالِ حَيَاتِهَا، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ كَفَنُ زَوْجِهَا بِالْإِجْمَاعِ، كَمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهَا كِسْوَتُهُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ وَلَا مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ فَكَفَنُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ كَنَفَقَتِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ أُعِدَّ لِحَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ.
وَعَلَى هَذَا إذَا نُبِشَ الْمَيِّتُ وَهُوَ طَرِيٌّ لَمْ يَتَفَسَّخْ بَعْدُ كُفِّنَ ثَانِيًا مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ حَاجَتَهُ إلَى الْكَفَنِ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ كَحَاجَتِهِ إلَيْهِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، فَإِنْ قُسِمَ الْمَالُ فَهُوَ عَلَى الْوَارِثِ دُونَ الْغُرَمَاءِ وَأَصْحَابِ الْوَصَايَا؛ لِأَنَّ بِالْقَسْمِ انْقَطَعَ حَقُّ الْمَيِّتِ عَنْهُ فَصَارَ كَأَنَّهُ مَاتَ وَلَا مَالَ لَهُ فَيُكَفِّنُهُ وَارِثُهُ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ وَلَا مَنْ تُفْتَرَضُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ فَكَفَنُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ نَفَقَتِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ.
وَإِنْ نُبِشَ بَعْدَمَا تَفَسَّخَ وَأُخِذَ كَفَنُهُ كُفِّنَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَفَسَّخَ خَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْآدَمِيِّينَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ فَصَارَ كَالسَّقْطِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ثُمَّ إذَا كُفِّنَ الْمَيِّتُ يُحْمَلُ عَلَى الْجِنَازَةِ.

.فَصْلٌ: فِي حَمْلِهِ عَلَى الْجِنَازَةِ:

وَالْكَلَامُ فِي حَمْلِهِ عَلَى الْجِنَازَةِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ كَمِّيَّةِ مَنْ يَحْمِلُ الْجِنَازَةِ، وَكَيْفِيَّةِ حَمْلِهَا وَتَشْيِيعِهَا وَوَضْعِهَا وَمَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ مِمَّا يُسَنُّ وَمَا يُكْرَهُ أَمَّا بَيَانُ كَمِّيَّةِ مَنْ يَحْمِلُ الْجِنَازَةِ وَكَيْفِيَّةِ حَمْلِهَا فَالسُّنَّةُ فِي حَمْلِ الْجِنَازَةِ أَنْ يَحْمِلَهَا أَرْبَعَةُ نَفَرٍ مِنْ جَوَانِبِهَا الْأَرْبَعِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: السُّنَّةُ حَمْلُهَا بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ وَهُوَ أَنْ يَحْمِلَهَا رَجُلَانِ يَتَقَدَّمُ أَحَدُهُمَا فَيَضَعُ جَانِبَيْ الْجِنَازَةِ عَلَى كَتِفَيْهِ وَيَتَأَخَّرُ الْآخَرُ فَيَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْحَمْلِ مَكْرُوهٌ، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ فِي الْمُجَرَّدِ.
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمَلَ جِنَازَةَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ» وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: «السُّنَّةُ أَنْ تُحْمَلَ الْجِنَازَةُ مِنْ جَوَانِبِهَا الْأَرْبَعِ» وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ يَدُورُ عَلَى الْجِنَازَةِ مِنْ جَوَانِبِهَا الْأَرْبَعِ؛ وَلِأَنَّ عَمَلَ النَّاسِ اشْتَهَرَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَهُوَ آمَنُ مِنْ سُقُوطِ الْجِنَازَةِ وَأَيْسَرُ عَلَى الْحَامِلِينَ الْمُتَدَاوِلِينَ بَيْنَهُمْ، وَأَبْعَدُ مِنْ تَشْبِيهِ حَمْلِ الْجِنَازَةِ بِحَمْلِ الْأَثْقَالِ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِذَلِكَ؛ وَلِهَذَا يُكْرَهُ حَمْلُهَا عَلَى الظَّهْرِ أَوْ عَلَى الدَّابَّةِ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ كَانَ لِضِيقِ الْمَكَانِ أَوْ لِعَوَزِ الْحَامِلِينَ وَمَنْ أَرَادَ إكْمَالَ السُّنَّةِ فِي حَمْلِ الْجِنَازَةِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْمِلَهَا مِنْ الْجَوَانِبِ الْأَرْبَعِ لِمَا رَوَيْنَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يَدُورُ عَلَى الْجِنَازَةِ عَلَى جَوَانِبِهَا الْأَرْبَعِ فَيَضَعُ مُقَدَّمَ الْجِنَازَةِ عَلَى يَمِينِهِ، ثُمَّ مُؤَخَّرَهَا عَلَى يَمِينِهِ ثُمَّ مُقَدَّمَهَا عَلَى يَسَارِهِ، ثُمَّ مُؤَخَّرَهَا عَلَى يَسَارِهِ، كَمَا بَيَّنَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ يُحِبُّ التَّيَامُنَ فِي كُلِّ شَيْءٍ» وَإِذَا حَمَلَ هَكَذَا حَصَلَتْ الْبِدَايَةُ بِيَمِينِ الْحَامِلِ وَيَمِينِ الْمَيِّتِ، وَإِنَّمَا بَدَأْنَا بِالْأَيْمَنِ الْمُقَدَّمِ دُونَ الْمُؤَخَّرِ؛ لِأَنَّ الْمُقَدَّمَ أَوَّلُ الْجِنَازَةِ، وَالْبِدَايَةُ بِالشَّيْءِ إنَّمَا تَكُونُ مِنْ أَوَّلِهِ ثُمَّ يَضَعُ مُؤَخَّرَهَا الْأَيْمَنَ عَلَى يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَضَعَ مُقَدَّمَهَا الْأَيْسَرَ عَلَى يَسَارِهِ لَاحْتَاجَ إلَى الْمَشْيِ أَمَامَهَا، وَالْمَشْيُ خَلْفَهَا أَفْضَلُ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ أَوْ وَضَعَ مُؤَخَّرَهَا الْأَيْسَرَ عَلَى يَسَارِهِ لَقَدَّمَ الْأَيْسَرَ عَلَى الْأَيْمَنِ، ثُمَّ يَضَعُ مُقَدَّمَهَا الْأَيْسَرَ عَلَى يَسَارِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ كَذَلِكَ يَقَعُ الْفَرَاغُ خَلْفَ الْجِنَازَةِ فَيَمْشِي خَلْفَهَا، وَهُوَ أَفْضَلُ، كَذَلِكَ كَانَ الْحَمْلُ، وَلِكَمَالِ السُّنَّةِ، كَمَا وَصَفْنَا مِنْ التَّرْتِيبِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَحْمِلَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ عَشْرَ خُطُوَاتٍ لِمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ «مَنْ حَمَلَ جِنَازَةً أَرْبَعِينَ خُطْوَةً كَفَّرَتْ أَرْبَعِينَ كَبِيرَةً» وَأَمَّا جِنَازَةُ الصَّبِيِّ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَحْمِلَهَا الرِّجَالُ وَيُكْرَهُ أَنْ تُوضَعَ جِنَازَتُهُ عَلَى دَابَّةٍ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ مُكَرَّمٌ مُحْتَرَمٌ كَالْبَالِغِ، وَلِهَذَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، كَمَا يُصَلَّى عَلَى الْبَالِغِ، وَمَعْنَى الْكَرَامَةِ وَالِاحْتِرَامِ فِي الْحَمْلِ عَلَى الْأَيْدِي، فَأَمَّا الْحَمْلُ عَلَى الدَّابَّةِ فَإِهَانَةٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ حَمْلَ الْأَمْتِعَةِ، وَإِهَانَةُ الْمُحْتَرَمِ مَكْرُوهٌ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَحْمِلَهُ رَاكِبٌ عَلَى دَابَّتِهِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْحَامِلُ لَهُ رَاكِبًا؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَرَامَةِ حَاصِلٌ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الرَّضِيعِ وَالْفَطِيمِ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَحْمِلَهُ فِي طَبَقٍ يَتَدَاوَلُونَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَالْإِسْرَاعُ بِالْجِنَازَةِ أَفْضَلُ مِنْ الْإِبْطَاءِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «عَجِّلُوا بِمَوْتَاكُمْ فَإِنْ يَكُ خَيْرًا قَدَّمْتُمُوهُ إلَيْهِ وَإِنْ يَكُ شَرًّا أَلْقَيْتُمُوهُ عَنْ رِقَابِكُمْ» وَفِي رِوَايَةٍ: «فَبُعْدًا لِأَهْلِ النَّارِ» لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْإِسْرَاعُ دُونَ الْخَبَبِ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمَشْيِ بِالْجِنَازَةِ فَقَالَ: مَا دُونَ الْخَبَبِ»؛ وَلِأَنَّ الْخَبَبَ يُؤَدِّي إلَى الْإِضْرَارِ بِمُشَيِّعِي الْجِنَازَةِ، وَيُقَدَّمُ الرَّأْسُ فِي حَالِ حَمْلِ الْجِنَازَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَشْرَفِ الْأَعْضَاءِ فَكَانَ تَقْدِيمُهُ أَوْلَى وَلِأَنَّ مَعْنَى الْكَرَامَةِ فِي التَّقْدِيمِ.
وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ التَّشْيِيعِ فَالْمَشْيُ خَلْفَ الْجِنَازَةِ أَفْضَلُ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمَشْيُ أَمَامَهَا أَفْضَلُ وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانُوا يَمْشُونَ أَمَامَ الْجِنَازَةِ» وَهَذَا حِكَايَةُ عَادَةٍ وَكَانَتْ عَادَتُهُمْ اخْتِيَارَ الْأَفْضَلِ؛ وَلِأَنَّهُمْ شُفَعَاءُ الْمَيِّتِ، وَالشَّفِيعُ أَبَدًا يَتَقَدَّمُ؛ لِأَنَّهُ أَحْوَطُ لِلصَّلَاةِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّحَرُّزِ عَنْ احْتِمَالِ الْفَوْتِ.
وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْجِنَازَةُ مَتْبُوعَةٌ وَلَيْسَتْ بِتَابِعَةٍ لَيْسَ مَعَهَا مَنْ تَقَدَّمَهَا» وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ «كَانَ يَمْشِي خَلْفَ جِنَازَةِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ» وَرَوَى مَعْمَرُ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «مَا مَشَى رَسُولُ اللَّهِ حَتَّى مَاتَ إلَّا خَلْفَ الْجِنَازَةِ» وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ فَضْلُ الْمَشْيِ خَلْفَ الْجِنَازَةِ عَلَى الْمَشْيِ أَمَامَهَا كَفَضْلِ الْمَكْتُوبَةِ عَلَى النَّافِلَةِ؛ وَلِأَنَّ الْمَشْيَ خَلْفَهَا أَقْرَبُ إلَى الِاتِّعَاظِ؛ لِأَنَّهُ يُعَايِنُ الْجِنَازَةَ فَيَتَّعِظُ فَكَانَ أَفْضَلَ، وَالْمَرْوِيُّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ وَتَسْهِيلِ الْأَمْرِ عَلَى النَّاسِ عِنْدَ الِازْدِحَامِ، وَهُوَ تَأْوِيلُ فِعْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّهُ قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَمْشِي مَعَ عَلِيٍّ خَلْفَ الْجِنَازَةِ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يَمْشِيَانِ أَمَامَهَا فَقُلْتُ: لِعَلِيٍّ مَا بَالُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ يَمْشِيَانِ أَمَامَ الْجِنَازَةِ فَقَالَ: إنَّهُمَا يَعْلَمَانِ أَنَّ الْمَشْيَ خَلْفَهَا أَفْضَلُ مِنْ الْمَشْيِ أَمَامَهَا إلَّا أَنَّهُمَا يُسَهَّ لَانَ عَلَى النَّاسِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ النَّاسَ يَتَحَرَّزُونَ عَنْ الْمَشْيِ أَمَامَهَا تَعْظِيمًا لَهَا، فَلَوْ اخْتَارَ الْمَشْيَ خَلْفَ الْجِنَازَةِ لَضَاقَ الطَّرِيقُ عَلَى مُشَيِّعِيهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ النَّاسَ شُفَعَاءُ الْمَيِّتِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَقَدَّمُوا فَيُشْكِلُ هَذَا بِحَالَةِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ حَالَةَ الصَّلَاةِ حَالَةُ الشَّفَاعَةِ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَتَقَدَّمُونَ الْمَيِّتَ بَلْ الْمَيِّتُ قُدَّامُهُمْ، وَقَوْلُهُ: هَذَا أَحْوَطُ لِلصَّلَاةِ قُلْنَا: عِنْدَنَا إنَّمَا يَكُونُ الْمَشْيُ خَلْفَهَا أَفْضَلُ إذَا كَانَ بِقُرْبٍ مِنْهَا بِحَيْثُ يُشَاهِدُهَا، وَفِي مِثْلِ هَذَا لَا تَفُوتُ الصَّلَاةُ.
وَلَوْ مَشَى قُدَّامَهَا كَانَ وَاسِعًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَعَلُوا ذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا غَيْرَ أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْكُلُّ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالُ مَتْبُوعِيَّةِ الْجِنَازَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.
وَلَا بَأْسَ بِالرُّكُوبِ إلَى صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَالْمَشْيُ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْخُشُوعِ، وَأَلْيَقُ بِالشَّفَاعَةِ وَيُكْرَهُ لِلرَّاكِبِ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْجِنَازَةَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو عَنْ الضَّرَرِ بِالنَّاسِ.
، وَلَا تُتْبَعُ الْجِنَازَةُ بِنَارٍ إلَى قَبْرِهِ يَعْنِي: الْإِجْمَارَ فِي قَبْرِهِ لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ فِي جِنَازَةٍ فَرَأَى امْرَأَةً فِي يَدِهَا مِجْمَرٌ فَصَاحَ عَلَيْهَا وَطَرَدَهَا حَتَّى تَوَارَثْ بِالْأَكَامِ» وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَا تَحْمِلُوا مَعِي مِجْمَرًا؛ وَلِأَنَّهَا آلَةُ الْعَذَابِ فَلَا تُتْبَعُ مَعَهُ تَفَاؤُلًا، قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ: أَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ زَادِهِ مِنْ الدُّنْيَا نَارًا؛ وَلِأَنَّ هَذَا فِعْلُ أَهْلِ الْكِتَابِ فَيُكْرَهُ التَّشَبُّهُ بِهِمْ.
وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْجِعَ مَنْ يَتْبَعُ الْجِنَازَةَ حَتَّى يُصَلِّيَ؛ لِأَنَّ الِاتِّبَاعَ كَانَ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهَا فَلَا يَرْجِعُ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ.
وَلَا يَنْبَغِي لِلنِّسَاءِ أَنْ يَخْرُجْنَ فِي الْجِنَازَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَاهُنَّ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: «انْصَرِفْنَ مَأْزُورَاتٍ غَيْرَ مَأْجُورَاتٍ».
وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُومَ لِلْجِنَازَةِ إذَا أُتِيَ بِهَا بَيْنَ يَدَيْهِ إلَّا أَنْ يُرِيدَ اتِّبَاعَهَا.
وَيُكْرَهُ النَّوْحُ وَالصِّيَاحُ فِي الْجِنَازَةِ وَمَنْزِلِ الْمَيِّتِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ «نَهَى عَنْ الصَّوْتَيْنِ الْأَحْمَقَيْنِ: صَوْتِ النَّائِحَةِ، وَالْمُغَنِّيَةِ».
فَأَمَّا الْبُكَاءُ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّهُ بَكَى عَلَى ابْنِهِ إبْرَاهِيمَ وَقَالَ: الْعَيْنُ تَدْمَعُ وَالْقَلْبُ يَخْشَعُ وَلَا نَقُولُ مَا يُسْخِطُ الرَّبَّ وَإِنَّا عَلَيْكَ يَا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ».
وَإِذَا كَانَ مَعَ الْجِنَازَةِ نَائِحَةٌ أَوْ صَائِحَةٌ زُجِرَتْ فَإِنْ لَمْ تَنْزَجِرْ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتْبَعَ الْجِنَازَةَ مَعَهَا وَيَمْتَنِعُ لِأَجْلِهَا؛ لِأَنَّ اتِّبَاعَ الْجِنَازَةِ سُنَّةٌ فَلَا يُتْرَكُ بِبِدْعَةٍ مِنْ غَيْرِهِ.
وَيُطِيلُ الصَّمْتَ إذَا اتَّبَعَ الْجِنَازَةَ وَيُكْرَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ لِمَا رُوِيَ عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْرَهُونَ رَفْعَ الصَّوْتِ عِنْدَ ثَلَاثَةٍ: عِنْدَ الْقِتَالِ، وَعِنْدَ الْجِنَازَةِ، وَالذِّكْرِ؛ وَلِأَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فَكَانَ مَكْرُوهًا.
، وَيُكْرَهُ لِمُتَّبِعِي الْجِنَازَةِ أَنْ يَقْعُدُوا قَبْلَ وَضْعِ الْجِنَازَةِ؛ لِأَنَّهُمْ أَتْبَاعُ الْجِنَازَةِ، وَالتَّبَعُ لَا يَقْعُدُ قَبْلَ قُعُودِ الْأَصْلِ؛ وَلَأَنَّهُمْ إنَّمَا حَضَرُوا تَعْظِيمًا لِلْمَيِّتِ، وَلَيْسَ مِنْ التَّعْظِيمِ الْجُلُوسُ قَبْلَ الْوَضْعِ، فَأَمَّا بَعْدَ الْوَضْعِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ لَا يَجْلِسُ حَتَّى يُوضَعَ الْمَيِّتُ فِي اللَّحْدِ وَكَانَ قَائِمًا مَعَ أَصْحَابِهِ عَلَى رَأْسِ قَبْرٍ فَقَالَ يَهُودِيٌّ: هَكَذَا نَفْعَلُ بِمَوْتَانَا فَجَلَسَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: خَالِفُوهُمْ».
وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الْوَضْعِ فَنَقُولُ: إنَّهَا تُوضَعُ عَرْضًا لِلْقِبْلَةِ هَكَذَا تَوَارَثَهُ النَّاسُ- وَاَللَّهَ أَعْلَمُ- ثُمَّ إذَا وُضِعَتْ الْجِنَازَةُ يُصَلَّى عَلَيْهَا.

.فَصْلٌ: فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ:

وَالْكَلَامُ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ أَنَّهَا فَرِيضَةٌ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ فَرْضِيَّتِهَا، وَفِي بَيَانِ مَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ، وَفِي بَيَانِ مَا تَصِحُّ بِهِ الصَّلَاةُ وَمَا يُفْسِدُهَا وَمَا يُكْرَهُ، وَفِي بَيَانِ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الصَّلَاةِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالدَّلِيلُ عَلَى فَرْضِيَّتِهَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «صَلُّوا عَلَى كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ» وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتُّ حُقُوقٍ» وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا «أَنَّهُ يُصَلَّى عَلَى جِنَازَتِهِ» وَكَلِمَةُ عَلَى لِلْإِيجَابِ وَكَذَا مُوَاظَبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَالْأُمَّةِ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا عَلَيْهَا، دَلِيلُ الْفَرْضِيَّةِ وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى فَرْضِيَّتِهَا أَيْضًا إلَّا أَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ يَسْقُطُ عَنْ الْبَاقِينَ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْفَرْضُ، وَهُوَ قَضَاءُ حَقِّ الْمَيِّتِ يَحْصُلُ بِالْبَعْضِ، وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ النَّاسِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْجِهَادِ، لَكِنْ لَا يَسَعُ الِاجْتِمَاعُ عَلَى تَرْكِهَا كَالْجِهَادِ.
وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ فَكُلُّ مُسْلِمٍ مَاتَ بَعْدَ الْوِلَادَةِ يُصَلَّى عَلَيْهِ صَغِيرًا كَانَ، أَوْ كَبِيرًا، ذَكَرًا كَانَ، أَوْ أُنْثَى، حُرًّا كَانَ، أَوْ عَبْدًا إلَّا الْبُغَاةَ وَقُطَّاعَ الطَّرِيقِ، وَمَنْ بِمِثْلِ حَالِهِمْ لِقَوْلِ النَّبِيِّ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «صَلُّوا عَلَى كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ» وَقَوْلُهُ: «لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتُّ حُقُوقٍ» وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا أَنْ يُصَلَّى عَلَى جِنَازَتِهِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ إلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ، وَالْبُغَاةُ وَمَنْ بِمِثْلِ حَالِهِمْ مَخْصُوصُونَ لِمَا ذَكَرْنَا.
وَلَا يُصَلَّى عَلَى مَنْ وُجِدَ مَيِّتًا، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِ الْغُسْلِ.
وَإِنْ مَاتَ فِي حَالِ وِلَادَتِهِ، فَإِنْ كَانَ خَرَجَ أَكْثَرُهُ صُلِّيَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّهُ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا لِلْأَغْلَبِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ نِصْفُهُ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا عَلَى قِيَاسِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى نِصْفِ الْمَيِّتِ.
وَلَا يُصَلَّى عَلَى بَعْضِ الْإِنْسَانِ حَتَّى يُوجَدَ الْأَكْثَرُ مِنْهُ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّا لَوْ صَلَّيْنَا عَلَى هَذَا الْبَعْضِ يَلْزَمُنَا الصَّلَاةُ عَلَى الْبَاقِي إذَا وَجَدْنَاهُ فَيُؤَدِّي إلَى التَّكْرَارِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ عِنْدَنَا بِخِلَافِ الْأَكْثَرِ؛ لِأَنَّهُ إذَا صُلِّيَ عَلَيْهِ لَمْ يُصَلَّ عَلَى الْبَاقِي إذَا وُجِدَ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِ الْغُسْلِ، وَذَكَرْنَا اخْتِلَافَ رِوَايَةِ الْكَرْخِيِّ وَالطَّحَاوِيِّ فِي النِّصْفِ الْمَقْطُوعِ.
وَلَا يُصَلَّى عَلَى مَيِّتٍ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً لَا جَمَاعَةً وَلَا وُحْدَانًا عِنْدَنَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ صَلَّوْا عَلَيْهَا أَجَانِبَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْأَوْلِيَاءِ، ثُمَّ حَضَرَ الْوَلِيُّ فَحِينَئِذٍ لَهُ أَنْ يُعِيدَهَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ لِمَنْ لَمْ يُصَلِّ أَنْ يُصَلِّيَ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «صَلَّى عَلَى النَّجَاشِيِّ» وَلَا شَكَّ أَنَّهُ كَانَ صَلَّى عَلَيْهِ وَرُوِيَ: «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَبْرٍ جَدِيدٍ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقِيلَ: قَبْرُ فُلَانَةَ فَقَالَ: هَلَّا آذَنْتُمُونِي بِالصَّلَاةِ عَلَيْهَا فَقِيلَ: إنَّهَا دُفِنَتْ لَيْلًا فَخَشِينَا عَلَيْكَ هَوَامَّ الْأَرْضِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذَا مَاتَ إنْسَانٌ فَآذِنُونِي فَإِنَّ صَلَاتِي عَلَيْهِ رَحْمَةٌ، وَقَامَ وَجَعَلَ الْقَبْرَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ وَصَلَّى عَلَيْهِ».
وَكَذَا الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ صَلَّوْا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةً بَعْدَ جَمَاعَةٍ؛ وَلِأَنَّهَا دُعَاءٌ، وَلَا بَأْسَ بِتَكْرَارِ الدُّعَاءِ؛ وَلِأَنَّ حَقَّ الْمَيِّتِ وَإِنْ قُضِيَ فَلِكُلِّ مُسْلِمٍ فِي الصَّلَاةِ حَقٌّ؛ وَلِأَنَّهُ يُثَابُ بِذَلِكَ، وَعَسَى أَنْ يُغْفَرَ لَهُ بِبَرَكَةِ هَذَا الْمَيِّتِ كَرَامَةً لَهُ، وَلَمْ يَقْضِ هَذَا الْحَقَّ فِي حَقِّ كُلِّ شَخْصٍ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ حَقَّهُ.
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَلَمَّا فَرَغَ جَاءَ عُمَرُ وَمَعَهُ قَوْمٌ فَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ ثَانِيًا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ لَا تُعَادُ، وَلَكِنْ اُدْعُ لِلْمَيِّتِ وَاسْتَغْفِرْ لَهُ» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فَاتَتْهُمَا صَلَاةٌ عَلَى جِنَازَةٍ فَلَمَّا حَضَرَا مَا زَادَا عَلَى الِاسْتِغْفَارِ لَهُ وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ أَنَّهُ فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ عَلَى جِنَازَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَمَّا حَضَرَ قَالَ: إنْ سَبَقْتُمُونِي بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَلَا تَسْبِقُونِي بِالدُّعَاءِ لَهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْأُمَّةَ تَوَارَثَتْ تَرْكَ الصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَلَوْ جَازَ لَمَا تَرَكَ مُسْلِمٌ الصَّلَاةَ عَلَيْهِمْ خُصُوصًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّهُ فِي قَبْرِهِ كَمَا وُضِعَ فَإِنَّ لُحُومَ الْأَنْبِيَاءِ حَرَامٌ عَلَى الْأَرْضِ، بِهِ وَرَدَ الْأَثَرُ، وَتَرْكُهُمْ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّكْرَارِ؛ وَلِأَنَّ الْفَرْضَ قَدْ سَقَطَ بِالْفِعْلِ مَرَّةً وَاحِدَةً؛ لِكَوْنِهَا فَرْضَ كِفَايَةٍ، وَلِهَذَا إنَّ مَنْ لَمْ يُصَلِّ لَوْ تَرَكَ الصَّلَاةَ ثَانِيًا لَا يَأْثَمُ وَإِذًا سَقَطَ الْفَرْضُ، فَلَوْ صَلَّى ثَانِيًا كَانَ نَفْلًا.
وَالتَّنَفُّلُ بِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ صَلَّى مَرَّةً لَا يُصَلِّي ثَانِيًا، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا تَقَدَّمَ غَيْرُ الْوَلِيِّ فَصَلَّى إنَّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَجُزْ الْأَوَّلُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَقَعْ فَرْضًا؛ لِأَنَّ حَقَّ التَّقَدُّمِ كَانَ لَهُ، فَإِذَا تَقَدَّمَ غَيْرُهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ فِي التَّقَدُّمِ فَيَقَعُ الْأَوَّلُ فَرْضًا، فَهُوَ الْفَرْقُ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا أَعَادَ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الصَّلَاةِ كَانَتْ لَهُ، فَإِنْ كَانَ أَوْلَى الْأَوْلِيَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يُصَلِّي عَلَى مَوْتَاكُمْ غَيْرِي مَا دُمْتُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ» فَلَمْ يَسْقُطْ بِأَدَاءِ غَيْرِهِ، وَهَذَا هُوَ تَأْوِيلُ فِعْلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَإِنَّ الْوَلَايَةَ كَانَتْ لِأَبِي بَكْرٍ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْخَلِيفَةُ إلَّا أَنَّهُ كَانَ مَشْغُولًا بِتَسْوِيَةِ الْأُمُورِ وَتَسْكِينِ الْفِتْنَةِ فَكَانُوا يُصَلُّونَ عَلَيْهِ قَبْلَ حُضُورِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ صَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ لَمْ يُصَلَّ بَعْدَهُ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ النَّجَاشِيِّ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ دُعَاءٌ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ تُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهَا الدُّعَاءُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ خَصَّهُ بِذَلِكَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ حَقًّا فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ قُلْنَا: نَعَمْ لَكِنْ لَا وَجْهَ لِاسْتِدْرَاكِ ذَلِكَ لِسُقُوطِ الْفَرْضِ، وَعَدَمِ جَوَازِ التَّنَفُّلِ بِهَا، وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: إنَّهَا دُعَاءٌ وَاسْتِغْفَارٌ؛ لِأَنَّ التَّنَفُّلَ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ مَشْرُوعٌ، وَبِالصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ.
وَعَلَى هَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يُصَلَّى عَلَى مَيِّتٍ غَائِبٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُصَلَّى عَلَيْهِ اسْتِدْلَالًا بِصَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّجَاشِيِّ وَهُوَ غَائِبٌ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ لِمَا بَيَّنَّا عَلَى أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ الْأَرْضَ طُوِيَتْ لَهُ، وَلَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، ثُمَّ مَا ذَكَرَهُ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ إنْ كَانَ فِي جَانِبِ الْمَشْرِقِ فَإِنْ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ كَانَ الْمَيِّتُ خَلْفَهُ، وَإِنْ اسْتَقْبَلَ الْمَيِّتَ كَانَ مُصَلِّيًا لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ.
وَلَا يُصَلَّى عَلَى صَبِيٍّ وَهُوَ عَلَى الدَّابَّةِ وَعَلَى أَيْدِي الرِّجَالِ حَتَّى يُوضَعَ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ بِمَنْزِلَةِ الْإِمَامِ لَهُمْ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا وَهُمْ عَلَى الْأَرْضِ.
وَلَا يُصَلَّى عَلَى الْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُصَلَّى عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} الْآيَةَ فَدَخَلُوا تَحْتَ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَلُّوا عَلَى كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ».
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ لَمْ يُغَسِّلْ أَهْلَ نَهْرَوَانَ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ فَقِيلَ لَهُ: أَكُفَّارٌ هُمْ؟ فَقَالَ: لَا وَلَكِنْ هُمْ إخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا أَشَارَ إلَى تَرْكِ الْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ إهَانَةً لَهُمْ لِيَكُونَ زَجْرًا لِغَيْرِهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَهُوَ نَظِيرُ الْمَصْلُوبِ تُرِكَ عَلَى خَشَبَتِهِ إهَانَةً وَزَجْرًا لِغَيْرِهِ كَذَا هَذَا، وَإِذَا ثَبَتَ الْحُكْمُ فِي الْبُغَاةِ ثَبَتَ فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّهُمْ فِي مَعْنَاهُمْ إذْ هُمْ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ كَالْبُغَاةِ فَكَانُوا فِي اسْتِحْقَاقِ الْإِهَانَةِ مِثْلَهُمْ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْبُغَاةَ وَمَنْ بِمِثْلِهِمْ مَخْصُوصُونَ عَنْ الْحَدِيثِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَكَذَلِكَ الَّذِي يُقْتَلُ بِالْخَنْقِ كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: وَكَذَلِكَ مَنْ يُقْتَلُ عَلَى مَتَاعٍ يَأْخُذُهُ وَالْمُكَاثِرُونَ فِي الْمِصْرِ بِالسِّلَاحِ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ فَيُلْحَقُونَ بِالْبُغَاةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ:

وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقُومَ الْإِمَامُ عِنْدَ الصَّلَاةِ بِحِذَاءِ الصَّدْرِ مِنْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَرَوَى الْحَسَنُ فِي كِتَابِ صَلَاتِهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي الرَّجُلِ: يَقُومُ بِحِذَاءِ وَسَطِهِ وَمِنْ الْمَرْأَةِ بِحِذَاءِ صَدْرِهَا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ: أَنَّ فِي الْقِيَامِ بِحِذَاءِ الْوَسَطِ تَسْوِيَةً بَيْنَ الْجَانِبَيْنِ فِي الْحَظِّ مِنْ الصَّلَاةِ، إلَّا أَنَّ فِي الْمَرْأَةِ يَقُومُ بِحِذَاءِ صَدْرِهَا لِيَكُونَ أَبْعَدَ عَنْ عَوْرَتِهَا الْغَلِيظَةِ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الصَّدْرَ هُوَ وَسَطُ الْبَدَنِ؛ لِأَنَّ الرِّجْلَيْنِ وَالرَّأْسَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَطْرَافِ فَيَبْقَى الْبَدَنُ مِنْ الْعَجِيزَةِ إلَى الرَّقَبَةِ فَكَانَ وَسَطُ الْبَدَنِ هُوَ الصَّدْرُ، وَالْقِيَامُ بِحِذَاءِ الْوَسَطِ أَوْلَى لِيَسْتَوِيَ الْجَانِبَانِ فِي الْحَظِّ مِنْ الصَّلَاةِ؛ وَلِأَنَّ الْقَلْبَ مَعْدِنُ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، فَالْوُقُوفُ بِحِيَالِهِ أَوْلَى.
وَلَا نَصَّ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي كَيْفِيَّةِ الْقِيَامِ، وَأَصْحَابُهُ يَقُولُونَ: يَقُومُ بِحِذَاءِ رَأْسِ الرَّجُلِ وَبِحِذَاءِ عَجُزِ الْمَرْأَةِ، وَيَكُونُ هَذَا مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّهُ صَلَّى عَلَى امْرَأَةٍ فَوَقَفَ عِنْدَ عَجِيزَتِهَا وَصَلَّى عَلَى رَجُلٍ فَقَامَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقِيلَ لَهُ: أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي كَذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ» قَالُوا: وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لَا يُخَالِفُ السُّنَّةَ، فَيَكُونُ هَذَا مَذْهَبَهُ وَإِنْ لَمْ يُرْوَ عَنْهُ.
وَلَكِنَّا نَقُولُ: هَذَا مُعَارَضٌ بِمَا رَوَى سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «صَلَّى عَلَى أُمِّ قِلَابَةَ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا فَقَامَ وَسَطَهَا» وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَذْهَبِنَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَقُومُ بِحِذَاءِ صَدْرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الصَّدْرَ وَسَطُ الْبَدَنِ، أَوْ نُؤَوِّلُ فَنَقُولُ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ وَقَفَ بِحِذَاءِ الْوَسَطِ إلَّا أَنَّهُ مَالَ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ إلَى الرَّأْسِ، وَفِي الْآخَرِ إلَى الْعَجُزِ فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ.
ثُمَّ يُكَبِّرُ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ: خَمْسُ تَكْبِيرَاتٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُوِيَ عَنْهُ الْخَمْسُ وَالسَّبْعُ وَالتِّسْعُ، وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا أَنَّ آخِرَ فِعْلِهِ كَانَ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ جَمَعَ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حِينَ اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ التَّكْبِيرَاتِ وَقَالَ لَهُمْ: إنَّكُمْ اخْتَلَفْتُمْ فَمَنْ يَأْتِي بَعْدَكُمْ يَكُونُ أَشَدَّ اخْتِلَافًا فَانْظُرُوا آخِرَ صَلَاةٍ صَلَّا هَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جِنَازَةٍ فَخُذُوا بِذَلِكَ فَوَجَدَهُ صَلَّى عَلَى امْرَأَةٍ كَبَّرَ عَلَيْهَا أَرْبَعًا فَاتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ فَكَانَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى كَوْنِ التَّكْبِيرَاتِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ أَرْبَعًا؛ لِأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَيْهَا حَتَّى قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ حِينَ سُئِلَ عَنْ تَكْبِيرَاتِ الْجِنَازَةِ: كُلُّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ، وَلَكِنِّي رَأَيْتُ النَّاسَ أَجْمَعُوا عَلَى أَرْبَعِ تَكْبِيرَاتٍ، وَالْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ وَكَذَا رَوَوْا عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا كَانَ يَفْعَلُ ثُمَّ أَخْبَرُوا أَنَّ آخِرَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ بِأَرْبَعِ تَكْبِيرَاتٍ، وَهَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ التَّنَاسُخِ حَيْثُ لَمْ تَحْمِلْ الْأُمَّةُ الْأَفْعَالَ الْمُخْتَلِفَةَ عَلَى التَّخْيِيرِ فَدَلَّ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ نُسِخَ بِهَذِهِ الَّتِي صَلَّاهَا آخِرَ صَلَاتِهِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ تَكْبِيرَةٍ قَائِمَةٌ مَقَامَ رَكْعَةٍ وَلَيْسَ فِي الْمَكْتُوبَاتِ زِيَادَةٌ عَلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ.
إلَّا أَنَّ ابْنَ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ: التَّكْبِيرَةُ الْأُولَى لِلِافْتِتَاحِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَعْدَهَا أَرْبَعُ تَكْبِيرَاتٍ، كُلُّ تَكْبِيرَةٍ قَائِمَةٌ مَقَامَ رَكْعَةٍ، وَالرَّافِضَةُ زَعَمَتْ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ يُكَبِّرُ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ خَمْسَ تَكْبِيرَاتٍ، وَعَلَى سَائِرِ النَّاسِ أَرْبَعًا، وَهَذَا افْتِرَاءٌ مِنْهُمْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَبَّرَ عَلَى فَاطِمَةَ أَرْبَعًا.
وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى عَلَى فَاطِمَةَ أَبُو بَكْرٍ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا، وَعُمَرُ صَلَّى عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا، فَإِذَا كَبَّرَ الْأُولَى أَثْنَى عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ أَنْ يَقُولَ سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك إلَى آخِرِهِ.
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ لَا اسْتِفْتَاحَ فِيهِ وَلَكِنَّ النَّقْلَ وَالْعَادَةَ أَنَّهُمْ يَسْتَفْتِحُونَ بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ، كَمَا يَسْتَفْتِحُونَ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَإِذَا كَبَّرَ الثَّانِيَةَ يَأْتِي بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ الصَّلَاةُ الْمَعْرُوفَةُ وَهِيَ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ إلَى قَوْلِهِ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَإِذَا كَبَّرَ الثَّالِثَةَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلْمَيِّتِ وَيَشْفَعُونَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ دُعَاءٌ لِلْمَيِّتِ وَالسُّنَّةُ فِي الدُّعَاءِ أَنْ يُقَدِّمَ الْحَمْدَ، ثُمَّ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ الدُّعَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ لِيَكُونَ أَرْجَى أَنْ يُسْتَجَابَ، وَالدُّعَاءُ أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا إنْ كَانَ يُحْسِنُهُ، وَإِنْ لَمْ يُحْسِنْهُ يَذْكُرُ مَا يَدْعُو بِهِ فِي التَّشَهُّدِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ إلَى آخِرِ هَذَا إذَا كَانَ بَالِغًا، فَأَمَّا إذَا كَانَ صَبِيًّا فَإِنَّهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا فَرَطًا وَذُخْرًا وَشَفِّعْهُ فِينَا كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يُكَبِّرُ التَّكْبِيرَةَ الرَّابِعَةَ وَيُسَلِّمُ تَسْلِيمَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ أَوَانُ التَّحَلُّلِ، وَذَلِكَ بِالسَّلَامِ وَهَلْ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّسْلِيمِ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَذَكَرَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّسْلِيمِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ؛ لِأَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ مَشْرُوعٌ لِلْإِعْلَامِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِعْلَامِ بِالتَّسْلِيمِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ؛ لِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ عَقِبَ التَّكْبِيرَةِ الرَّابِعَةِ بِلَا فَصْلٍ، وَلَكِنَّ الْعَمَلَ فِي زَمَانِنَا هَذَا يُخَالِفُ مَا يَقُولُهُ الْحَسَنُ، وَلَيْسَ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الرَّابِعَةِ دُعَاءٌ سِوَى السَّلَامِ، وَقَدْ اخْتَارَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا مَا يُخْتَمُ بِهِ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً إلَخْ.
فَإِنْ كَبَّرَ الْإِمَامُ خَمْسًا لَمْ يُتَابِعْهُ الْمُقْتَدِي فِي الْخَامِسَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ يُتَابِعُهُ وَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّ هَذَا مُجْتَهَدٌ فِيهِ فَيُتَابِعُ الْمُقْتَدِي إمَامَهُ، كَمَا فِي تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ وَلَنَا أَنَّ هَذَا عَمَلٌ بِالْمَنْسُوخِ؛ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى أَرْبَعِ تَكْبِيرَاتٍ ثَبَتَ انْتِسَاخُهُ بِمَا رَوَيْنَا فَظَهَرَ خَطَؤُهُ بِيَقِينٍ فِيهِ فَلَا يُتَابِعُهُ فِي الْخَطَأِ، بِخِلَافِ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ خَطَؤُهُ بِيَقِينٍ حَتَّى لَوْ ظَهَرَ لَا يُتَابِعُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ.
ثُمَّ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُقْتَدِيَ مَاذَا يَفْعَلُ إذَا لَمْ يُتَابِعْهُ فِي التَّكْبِيرَةِ الزَّائِدَةِ فِي رِوَايَةٍ؟ قَالَ يَنْتَظِرُ الْإِمَامَ حَتَّى يُتَابِعَهُ فِي التَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ لَيْسَ بِخَطَأٍ إنَّمَا الْخَطَأُ مُتَابَعَتُهُ فِي التَّكْبِيرَةِ فَيَنْتَظِرُهُ وَلَا يُتَابِعُ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: يُسَلِّمُ وَلَا يَنْتَظِرُ؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ فِي التَّحْرِيمَةِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الرَّابِعَةِ خَطَأٌ؛ لِأَنَّ التَّحْلِيلَ عَقِيبَهَا هُوَ الْمَشْرُوعُ بِلَا فَصْلٍ فَلَا يُتَابِعُهُ فِي الْبَقَاءِ، كَمَا لَا يُتَابِعُهُ فِي التَّكْبِيرَةِ الزَّائِدَةِ.
وَلَا يَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ بِشَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُفْتَرَضُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِيهَا، وَذَلِكَ عَقِيبَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى بَعْدَ الثَّنَاءِ، وَعِنْدَنَا لَوْ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ عَلَى سَبِيلِ الدُّعَاءِ وَالثَّنَاءِ لَمْ يُكْرَهْ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ»، وَقَوْلِهِ: «لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ» وَهَذِهِ صَلَاةٌ بِدَلِيلِ شَرْطِ الطَّهَارَةِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِيهَا، وَعَنْ جَابِرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَبَّرَ عَلَى مَيِّتٍ أَرْبَعًا وَقَرَأَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى» وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّهُ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَقَرَأَ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَجَهَرَ بِهَا وَقَالَ: إنَّمَا جَهَرْتُ لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّةٌ»، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ «أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ هَلْ يُقْرَأُ فِيهَا؟ فَقَالَ: لَمْ يُوَقِّتْ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلًا وَلَا قِرَاءَةً»، وَفِي رِوَايَةٍ دُعَاءً وَلَا قِرَاءَةً كَبِّرْ مَا كَبَّرَ الْإِمَامُ وَاخْتَرْ مِنْ أَطْيَبِ الْكَلَامِ مَا شِئْت، وَفِي رِوَايَةٍ وَاخْتَرْ مِنْ الدُّعَاءِ أَطْيَبَهُ وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهُمَا قَالَا: لَيْسَ فِيهَا قِرَاءَةُ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ وَلِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِلدُّعَاءِ، وَمُقَدِّمَةُ الدُّعَاءِ الْحَمْدُ وَالثَّنَاءُ وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا الْقِرَاءَةُ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ «لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» وَلَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ لَا يَتَنَاوَلُ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَلَاةٍ حَقِيقَةً إنَّمَا هِيَ دُعَاءٌ وَاسْتِغْفَارٌ لِلْمَيِّتِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا الْأَرْكَانُ الَّتِي تَتَرَكَّبُ مِنْهَا الصَّلَاةُ مِنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إلَّا أَنَّهَا تُسَمَّى صَلَاةً لِمَا فِيهَا مِنْ الدُّعَاءِ، وَاشْتِرَاطُ الطَّهَارَةِ، وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِيهَا لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا صَلَاةً حَقِيقِيَّةً كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ؛ وَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ فَلَا يَتَنَاوَلُهَا مُطْلَقُ الِاسْمِ وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ مُعَارَضٌ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَوْفٍ، وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّهُ كَانَ قَرَأَ عَلَى سَبِيلِ الثَّنَاءِ لَا عَلَى سَبِيلِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ عِنْدَنَا.
وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ إلَّا فِي التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى وَكَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّةِ بَلْخٍ اخْتَارُوا رَفْعَ الْيَدِ فِي كُلِّ تَكْبِيرَةٍ مِنْ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَكَانَ نُصَيْرُ بْنُ يَحْيَى يَرْفَعُ تَارَةً وَلَا يَرْفَعُ تَارَةً، وَجْهُ قَوْلِ مَنْ اخْتَارَ الرَّفْعَ: أَنَّ هَذِهِ تَكْبِيرَاتٌ يُؤْتَى بِهَا فِي قِيَامٍ مُسْتَوِي فَيَرْفَعُ الْيَدَ عِنْدَهَا كَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ وَتَكْبِيرِ الْقُنُوتِ، وَالْجَامِعُ الْحَاجَةُ إلَى إعْلَامِ مَنْ خَلْفَهُ مِنْ الْأَصَمِّ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ وَلَيْسَ فِيهَا صَلَاةُ الْجِنَازَةِ» وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا: لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي فِيهَا إلَّا عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ؛ لِأَنَّ كُلَّ تَكْبِيرَةٍ قَائِمَةٌ مَقَامَ رَكْعَةٍ، ثُمَّ لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ إلَّا عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ عِنْدَنَا فَكَذَا فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ.
وَلَا يَجْهَرُ بِمَا يَقْرَأُ عَقِيبَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ، وَالسُّنَّةُ فِيهِ الْمُخَافَتَةُ.
صَلَّيْنَ النِّسَاءُ جَمَاعَةً عَلَى جِنَازَةٍ قَامَتْ الْإِمَامَةُ وَسَطَهُنَّ، كَمَا فِي الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ الْمَعْهُودَةِ.
وَلَوْ كَبَّرَ الْإِمَامُ تَكْبِيرَةً، أَوْ تَكْبِيرَتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ لَا يُكَبِّرُ، وَلَكِنَّهُ يَنْتَظِرُ حَتَّى يُكَبِّرَ الْإِمَامُ فَيُكَبِّرَ مَعَهُ، ثُمَّ إذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ قَضَى مَا عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ تُرْفَعَ الْجِنَازَةُ، وَهَذَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يُكَبِّرُ وَاحِدَةً حِينَ يَحْضُرُ، ثُمَّ إنْ كَانَ الْإِمَامُ كَبَّرَ وَاحِدَةً لَمْ يَقْضِ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ كَبَّرَ ثِنْتَيْنِ قَضَى وَاحِدَةً وَلَا يَقْضِي تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ هُوَ يَقُولُ: إنَّهُ مَسْبُوقٌ فلابد مِنْ أَنْ يَأْتِيَ بِتَكْبِيرَةِ الِائْتِمَامِ حِينَ انْتَهَى إلَى الْإِمَامِ، كَمَا فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَكَمَا لَوْ كَانَ حَاضِرًا مَعَ الْإِمَامِ وَوَقَعَ تَكْبِيرُ الِافْتِتَاحِ سَابِقًا عَلَيْهِ أَنَّهُ يَأْتِي بِالتَّكْبِيرِ وَلَا يَنْتَظِرُ أَنْ يُكَبِّرَ الْإِمَامُ الثَّانِيَةَ بِالْإِجْمَاعِ كَذَا هَذَا، وَلَهُمَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الَّذِي انْتَهَى إلَى الْإِمَامِ وَهُوَ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَقَدْ سَبَقَهُ الْإِمَامُ بِتَكْبِيرَةٍ: أَنَّهُ لَا يَشْتَغِلُ بِقَضَاءِ مَا سَبَقَهُ الْإِمَامُ بَلْ يُتَابِعُهُ وَهَذَا قَوْلٌ رُوِيَ عَنْهُ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهِ خِلَافُهُ فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ تَكْبِيرَةٍ مِنْ هَذِهِ الصَّلَاةِ قَائِمَةٌ مَقَامَ رَكْعَةٍ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ تَكْبِيرَةً مِنْهَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ.
كَمَا لَوْ تَرَكَ رَكْعَةً مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ، وَالْمَسْبُوقُ بِرَكْعَةٍ يُتَابِعُ الْإِمَامَ فِي الْحَالَةِ الَّتِي أَدْرَكَهَا، وَلَا يَشْتَغِلُ بِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ أَوَّلًا؛ لِأَنَّ ذَاكَ أَمْرٌ مَنْسُوخٌ، كَذَا هَاهُنَا، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ حَاضِرًا؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ خَلْفَ الْإِمَامِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمُدْرِكِ لِتَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ يُكَبِّرُونَ بَعْدَ الْإِمَامِ، وَيَقَعُ ذَلِكَ أَدَاءً لَا قَضَاءً فَيَأْتِي بِهَا حِينَ حَضَرَتْهُ النِّيَّةُ بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُدْرِكٍ لِلتَّكْبِيرَةِ الْأُولَى، وَهِيَ قَائِمَةٌ مَقَامَ رَكْعَةٍ، فَلَا يَشْتَغِلُ بِقَضَائِهَا قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ كَسَائِرِ التَّكْبِيرَاتِ، ثُمَّ عِنْدَهُمَا يَقْضِي مَا فَاتَهُ؛ لِأَنَّ الْمَسْبُوقَ يَقْضِي الْفَائِتَ لَا مَحَالَةَ وَلَكِنْ قَبْلَ أَنْ تُرْفَعَ الْجِنَازَةُ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ بِدُونِ الْجِنَازَةِ لَا تُتَصَوَّرُ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إنْ كَانَ الْإِمَامُ كَبَّرَ وَاحِدَةً لَمْ يَقْضِ شَيْئًا، وَإِنْ كَبَّرَ ثِنْتَيْنِ قَضَى وَاحِدَةً لِمَا ذَكَرْنَا.
وَلَوْ جَاءَ بَعْدَمَا كَبَّرَ الْإِمَامُ الرَّابِعَةَ قَبْلَ السَّلَامِ لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُ، وَقَدْ فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُكَبِّرُ وَاحِدَةً وَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ قَضَى ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ، كَمَا لَوْ كَانَ حَاضِرًا خَلْفَ الْإِمَامِ وَلَمْ يُكَبِّرْ شَيْئًا حَتَّى كَبَّرَ الْإِمَامُ الرَّابِعَةَ، الصَّحِيحُ قَوْلُهُمَا: لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى أَنْ يُكَبِّرَ وَحْدَهُ لِمَا قُلْنَا: الْإِمَامُ لَا يُكَبِّرُ بَعْدَ هَذَا لِتَتَابُعِهِ، وَالْأَصْلُ فِي الْبَابِ عِنْدَهُمَا أَنَّ الْمُقْتَدِيَ يَدْخُلُ بِتَكْبِيرَةِ الْإِمَامِ فَإِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ الرَّابِعَةِ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الدُّخُولُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَدْخُلُ إذَا بَقِيَتْ التَّحْرِيمَةُ، وَذَكَرَ عِصَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ هاهنا يُكَبِّرُ أَيْضًا بِخِلَافِ مَا إذَا جَاءَ وَقَدْ كَبَّرَ الْإِمَامُ ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ حَيْثُ لَا يُكَبِّرُ بَلْ يَنْتَظِرُ الْإِمَامَ حَتَّى يُكَبِّرَ الرَّابِعَةَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِقَضَاءِ مَا سَبَقَ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ إنْ كَانَ لَا يَجُوزُ لَكِنْ جَوَّزْنَا هاهنا لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ انْتَظَرَ الْإِمَامَ هاهنا فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ بِخِلَافِ تِلْكَ الصُّورَةِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: وَأَمَّا بَيَانُ مَا تَصِحُّ بِهِ، وَمَا تَفْسُدُ، وَمَا يُكْرَهُ:

أَمَّا مَا تَصِحُّ بِهِ فَكُلُّ مَا يُعْتَبَرُ شَرْطًا لِصِحَّةِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ مِنْ الطَّهَارَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَالْحُكْمِيَّةِ، وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَالنِّيَّةِ يُعْتَبَرُ شَرْطًا لِصِحَّتِهَا حَتَّى أَنَّهُمْ لَوْ صَلَّوْا عَلَى جِنَازَةٍ وَالْإِمَامُ غَيْرُ طَاهِرٍ فَعَلَيْهِمْ إعَادَتُهَا؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ غَيْرُ جَائِزَةٍ لِعَدَمِ الطَّهَارَةِ فَكَذَا صَلَاتُهُمْ؛ لِأَنَّهَا بِنَاءً عَلَى صَلَاتِهِ.
وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ عَلَى الطَّهَارَةِ وَالْقَوْمُ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ جَازَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ إعَادَتُهَا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَيِّتِ تَأَدَّى بِصَلَاةِ الْإِمَامِ، وَدَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ.
وَلَوْ أَخْطَئُوا بِالرَّأْسِ فَوَضَعُوهُ فِي مَوْضِعِ الرِّجْلَيْنِ وَصَلَّوْا عَلَيْهَا جَازَتْ الصَّلَاةُ؛ لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْجَوَازِ، وَإِنَّمَا الْحَاصِلُ بِغَيْرِ صِفَةِ الْوَضْعِ، وَذَا لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ إلَّا أَنَّهُمْ إنْ تَعَمَّدُوا ذَلِكَ فَقَدْ أَسَاءُوا لِتَغْيِيرِهِمْ السُّنَّةَ الْمُتَوَارَثَةَ.
وَلَوْ تَحَرَّوْا عَلَى جِنَازَةٍ فَأَخْطَئُوا الْقِبْلَةَ جَازَتْ صَلَاتُهُمْ؛ لِأَنَّ الْمَكْتُوبَةَ تَجُوزُ فَهَذِهِ أَوْلَى، وَإِنْ تَعَمَّدُوا خِلَافَهَا لَمْ تَجُزْ، كَمَا فِي اعْتِبَارِ شَرْطِ الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ حَالَةَ الِاخْتِيَارِ، كَمَا فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ.
وَلَوْ صَلَّى رَاكِبًا أَوْ قَاعِدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَمْ تُجْزِهِمْ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ تُجْزِئَهُمْ كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ وَهُوَ لَا يَخْتَلِفُ وَالْأَرْكَانُ فِيهَا التَّكْبِيرَاتُ وَيُمْكِنُ تَحْصِيلُهَا فِي حَالَةِ الرُّكُوبِ، كَمَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهَا فِي حَالَةِ الْقِيَامِ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّ الشَّرْعَ مَا وَرَدَ بِهَا إلَّا فِي حَالَةِ الْقِيَامِ فَيُرَاعَى فِيهَا مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ؛ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الْخَلَلِ فِي شَرَائِطِهَا، فَكَذَا فِي الرُّكْنِ، بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الرُّكْنَ أَهَمُّ مِنْ الشَّرْطِ؛ وَلِأَنَّ الْأَدَاءَ قُعُودًا أَوْ رُكْبَانًا يُؤَدِّي إلَى الِاسْتِخْفَافِ بِالْمَيِّتِ، وَهَذِهِ الصَّلَاةُ شُرِعَتْ لِتَعْظِيمِ الْمَيِّتِ؛ وَلِهَذَا تَسْقُطُ فِي حَقِّ مَنْ تَجِبُ إهَانَتُهُ كَالْبَاغِي، وَالْكَافِرِ، وَقَاطِعِ الطَّرِيقِ فَلَا يَجُوزُ أَدَاءُ مَا شُرِعَ لِلتَّعْظِيمِ عَلَى وَجْهٍ يُؤَدِّي إلَى الِاسْتِخْفَافِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَعُودَ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْصِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ.
وَلَوْ كَانَ وَلِيُّ الْمَيِّتِ مَرِيضًا فَصَلَّى قَاعِدًا وَصَلَّى النَّاسُ خَلْفَهُ قِيَامًا أَجْزَأَهُمْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُجْزِئُ الْإِمَامَ، وَلَا يُجْزِئُ الْمَأْمُومَ بِنَاءً عَلَى اقْتِدَاءِ الْقَائِمِ بِالْقَاعِدِ، وَقَدْ مَرَّ ذَلِكَ.
وَلَوْ ذَكَرُوا بَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ أَنَّهُمْ لَمْ يُغَسِّلُوهُ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ ذَكَرُوا قَبْلَ الدَّفْنِ، أَوْ بَعْدَهُ: فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدَّفْنِ غَسَّلُوهُ وَأَعَادُوا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ طَهَارَةَ الْمَيِّتِ شَرْطٌ لِجَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، كَمَا أَنَّ طَهَارَةَ الْإِمَامِ شَرْطٌ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِمَامِ فَتُعْتَبَرُ طَهَارَتُهُ، فَإِذَا فُقِدَتْ لَمْ يُعْتَدَّ بِالصَّلَاةِ فَيُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، وَإِنْ ذَكَرُوا بَعْدَ الدَّفْنِ لَمْ يَنْبُشُوا عَنْهُ؛ لِأَنَّ النَّبْشَ حَرَامٌ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، فَيَسْقُطُ الْغُسْلُ وَلَا تُعَادُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ طَهَارَةَ الْمَيِّتِ شَرْطُ جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ لِمَا بَيَّنَّا.
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُخْرَجُ مَا لَمْ يُهِيلُوا عَلَيْهِ التُّرَابَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِنَبْشٍ، فَإِنْ أَهَالُوا التُّرَابَ لَمْ يُخْرَجْ، وَتُعَادُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الصَّلَاةَ لَمْ تُعْتَبَرْ لِتَرْكِهِمْ الطَّهَارَةَ مَعَ الْإِمْكَانِ، وَالْآنَ فَاتَ الْإِمْكَانُ فَسَقَطَتْ الطَّهَارَةُ فَيُصَلَّى عَلَيْهِ.
وَلَوْ دُفِنَ بَعْدَ الْغُسْلِ قَبْلَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ صُلِّيَ عَلَيْهِ فِي الْقَبْرِ مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ تَفَرَّقَ وَفِي الْأَمَالِي عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: يُصَلَّى عَلَيْهِ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ هَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ، أَمَّا قَبْلَ مُضِيِّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلِمَا رَوَيْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى قَبْرِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ فَلَمَّا جَازَتْ الصَّلَاةُ عَلَى الْقَبْرِ بَعْدَ مَا صُلِّيَ عَلَى الْمَيِّتِ مَرَّةً فَلَأَنْ تَجُوزَ فِي مَوْضِعٍ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ أَصْلًا أَوْلَى.
وَأَمَّا بَعْدَ الثَّلَاثَةِ أَيَّامٍ لَا يُصَلَّى؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مَشْرُوعَةٌ عَلَى الْبَدَنِ وَبَعْدَ مُضِيِّ الثَّلَاثِ يَنْشَقُّ وَيَتَفَرَّقُ فَلَا يَبْقَى الْبَدَنُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ فِي الْمُدَّةِ الْقَلِيلَةِ لَا يَتَفَرَّقُ وَفِي الْكَثِيرَةِ يَتَفَرَّقُ، فَجُعِلَتْ الثَّلَاثُ فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ؛ لِأَنَّهَا جَمْعٌ وَالْجَمْعُ ثَبَتَ بِالْكَثْرَةِ؛ وَلِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْمُعْتَادِ وَالْغَالِبُ فِي الْعَادَةِ أَنَّ بِمُضِيِّ الثَّلَاثِ يَتَفَسَّخُ وَيَتَفَرَّقُ أَعْضَاؤُهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ فِي الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَبِاخْتِلَافِ حَالِ الْمَيِّتِ فِي السِّمَنِ وَالْهُزَالِ، وَبِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ فَيُحَكَّمُ فِيهِ غَالِبُ الرَّأْيِ وَأَكْبَرُ الظَّنِّ، فَإِنْ قِيلَ: رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّهُ صَلَّى عَلَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ بَعْدَ ثَمَانِ سِنِينَ» فَالْجَوَابُ أَنَّ مَعْنَاهُ- وَاَللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّهُ دَعَا لَهُمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ}، وَالصَّلَاةُ فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ، وَقِيلَ: إنَّهُمْ لَمْ تَتَفَرَّقْ أَعْضَاؤُهُمْ فَإِنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُحَوِّلَهُمْ وَجَدَهُمْ، كَمَا دُفِنُوا فَتَرَكَهُمْ.
الصَّلَاةُ عَلَى الْجَمَاعَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً فَإِذَا اجْتَمَعَتْ الْجَنَائِزُ فَالْإِمَامُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ صَلَّى عَلَيْهِمْ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَإِنْ شَاءَ صَلَّى عَلَى كُلِّ جِنَازَةٍ عَلَى حِدَةٍ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «صَلَّى يَوْمَ أُحُدٍ عَلَى كُلِّ عَشَرَةٍ مِنْ الشُّهَدَاءِ صَلَاةً وَاحِدَةً»؛ وَلِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الدُّعَاءُ وَالشَّفَاعَةُ لِلْمَوْتَى يَحْصُلُ بِصَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ عَلَى حِدَةٍ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَدِّمَ الْأَفْضَلَ فَالْأَفْضَلَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَا بَأْسَ بِهِ.
ثُمَّ كَيْفَ تُوضَعُ الْجَنَائِزُ إذَا اجْتَمَعَتْ؟ فَنَقُولُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، أَوْ اخْتَلَفَ الْجِنْسُ فَإِنْ كَانَ الْجِنْسُ مُتَّحِدًا فَإِنْ شَاءُوا جَعَلُوهَا صَفًّا وَاحِدًا، كَمَا يَصْطَفُّونَ فِي حَالِ حَيَاتِهِمْ عِنْدَ الصَّلَاةِ، وَإِنْ شَاءُوا وَضَعُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ؛ لِيَقُومَ الْإِمَامُ بِحِذَاءِ الْكُلِّ، هَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّ الثَّانِيَ أَوْلَى مِنْ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ هِيَ قِيَامُ الْإِمَامِ بِحِذَاءِ الْمَيِّتِ، وَهُوَ يَحْصُلُ فِي الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، وَإِذَا وَضَعُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَفْضَلُهُمْ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُوضَعُ أَفْضَلُهُمَا مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ وَأَسَنُّهُمَا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: وَالْأَحْسَنُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ أَهْلُ الْفَضْلِ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى».
ثُمَّ إنْ وُضِعَ رَأْسُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِحِذَاءِ رَأْسِ صَاحِبِهِ فَحَسَنٌ، وَإِنْ وُضِعَ شِبْهَ الدَّرَجِ، كَمَا قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الثَّانِي عِنْدَ مَنْكِبِ الْأَوَّلِ فَحَسَنٌ، كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ وُضِعَ هَكَذَا فَحَسَنٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ دُفِنُوا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَيَحْسُنُ الْوَضْعُ لِلصَّلَاةِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ أَيْضًا.
وَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسُ بِأَنْ كَانُوا رِجَالًا وَنِسَاءً تُوضَعُ الرِّجَالُ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ، وَالنِّسَاءُ خَلْفَ الرِّجَالِ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ؛ لِأَنَّهُمْ هَكَذَا يَصْطَفُّونَ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، ثُمَّ إنَّ الرِّجَالَ يَكُونُونَ أَقْرَبَ إلَى الْإِمَامِ مِنْ النِّسَاءِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: تُوضَعُ النِّسَاءُ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ، وَالرِّجَالُ خَلْفَهُنَّ؛ لِأَنَّ فِي الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ صَفُّ النِّسَاءِ خَلْفَ صَفِّ الرِّجَالِ إلَى الْقِبْلَةِ فَكَذَا فِي وَضْعِ الْجَنَائِزِ.
وَلَوْ اجْتَمَعَ جِنَازَةُ رَجُلٍ وَصَبِيٍّ وَخُنْثَى وَامْرَأَةٍ وَصَبِيَّةٍ وُضِعَ الرَّجُلُ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ، وَالصَّبِيُّ وَرَاءَهُ، ثُمَّ الْخُنْثَى، ثُمَّ الْمَرْأَةُ، ثُمَّ الصَّبِيَّةُ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ النَّبِيِّ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ أُولُوا الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»؛ وَلِأَنَّهُمْ هَكَذَا يَقُومُونَ فِي الصَّفِّ خَلْفَ الْإِمَامِ حَالَةَ الْحَيَاةِ فَيُوضَعُونَ كَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَلَوْ كَبَّرَ الْإِمَامُ عَلَى جِنَازَةٍ ثُمَّ أُتِيَ بِجِنَازَةٍ أُخْرَى فَوُضِعَتْ مَعَهَا مَضَى عَلَى الْأُولَى وَيَسْتَأْنِفُ الصَّلَاةَ عَلَى الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ انْعَقَدَتْ لِلصَّلَاةِ عَلَى الْأُولَى فَيُتِمُّهَا، فَإِنْ كَبَّرَ الثَّانِيَةَ يَنْوِيهِمَا فَهِيَ لِلْأُولَى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الْخُرُوجَ عَنْ الْأُولَى فَبَقِيَ فِيهَا وَلَمْ يَقَعْ لِلثَّانِيَةِ، وَإِنْ كَبَّرَ يَنْوِي الثَّانِيَةَ وَحْدَهَا فَهِيَ لِلثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ الْأُولَى بِالتَّكْبِيرَةِ مَعَ النِّيَّةِ، كَمَا إذَا كَانَ فِي الظُّهْرِ فَكَبَّرَ يَنْوِي الْعَصْرَ صَارَ مُنْتَقِلًا مِنْ الظُّهْرِ فَكَذَا هَذَا، بِخِلَافِ مَا إذَا نَوَاهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ مَا رَفَضَ الْأُولَى فَبَقِيَ فِيهَا فَلَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي الثَّانِيَةِ، ثُمَّ إذَا صَارَ شَارِعًا فِي الثَّانِيَةِ فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا أَعَادَ الصَّلَاةَ عَلَى الْأُولَى أَيْ: يَسْتَقْبِلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.